بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

ملكة سبأ
يحمل القرآن الكريم في طياته إشارات دقيقة ومعانٍ بليغة في سرد قصص الأمم السابقة، ومن أبرز هذه القصص ما ورد عن ملكة سبأ وملكها، في سورة النمل.
وقد عرض القرآن تفاصيل اللقاء الفريد بين ملكة متحضرة وعاقلة، ونبي حكيم وسيد مُلهم، في مشهد يجمع بين الفطنة السياسية والهداية الربانية، ضمن إطار بياني معجز يفيض باللطائف البلاغية والمعاني الإيمانية العميقة.
الهدهد رسول العقيدة وسط ساحة الحكم
بدأت القصة حين غاب الهدهد عن مجلس سليمان، وعاد يحمل خبرًا عظيمًا عن قوم يعبدون الشمس، على رأسهم امرأة ملكت عليهم، كما جاء في قوله تعالى:
“إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ”. النمل: 23.
تتجلى هنا لطائف عدة، منها أن الهدهد قدّم وصفًا دقيقًا لحال الملكة، فذكر حكمها، وقوتها، ورمز سيادتها المتمثل في “العرش العظيم”، وهذا يعكس مدى تحضّر مملكة سبأ، ويُظهر كيف استخدم الهدهد مفردات تُشير إلى عظمة المُلك، تمهيدًا لبيان ضلال القوم في العقيدة رغم تقدمهم المادي.
وفي الآية التالية، قال الهدهد:”وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ”. النمل: 24.
في هذا الموضع تتضح لطافة التعبير، حيث جاء النهي ضِمنيًّا لا مباشرًا، بصيغة الخبر لا الأمر، مما يكشف عن منهج دعوي رفيق في عرض الإنكار، ويجعل القارئ يتدبر الفرق بين تقدم مادي مقرون بضياع عقدي، وأهمية الهداية في تحقيق التوازن.
رسالة سليمان: قوة بلا تهديد وبلاغة بلا تكلف
وهنا بعث سليمان عليه السلام برسالة مع الهدهد إلى ملكة سبأ، فيها يقول:”إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ”
النمل: 30-31.
وهنا تظهر عدة لطائف قرآنية، منها البدء باسم الله، وهو ما لم يكن مألوفًا في مراسلات الملوك آنذاك، ما يدل على أن رسالة سليمان كانت دعوية بامتياز. كما أن الدعوة لم تكن بأسلوب قهري، بل تضمنت دعوة إلى الإسلام في سياق هادئ ومتزن، يعكس حكمة النبي وسعة أفقه.
موقف الملكة: فطنة سياسية وحكمة نسوية
وعندما قرأت ملكة سبأ الرسالة، جمعت قومها قائلة:
“يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي”. النمل: 32.
وهذا الموقف يكشف عن سلوك قيادي واعٍ، حيث لم تتسرع في اتخاذ قرار، بل استشارت قومها، وهو ما يدل على رجاحة عقلها. وعندما اقترح قومها الحرب، اختارت الملكة أن تبدأ بالهدية، لا خوفًا، بل لإدراكها أن الحرب يجب أن تكون آخر الخيارات، كما في قوله تعالى:
“وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ”
[النمل: 35].
وبعد سلسلة من الأحداث، منها دخول قصر سليمان، وإظهار قوته وعلمه، أدركت الملكة الحق، فصرّحت بإيمانها:”رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”. النمل: 44.
وفي هذا الإعلان الإيماني تظهر اللطافة العظمى في القصة؛ فملكة قوية، متحضرة، حكيمة، لم يمنعها منصبها من التواضع للحق، والاعتراف بالخطأ، والدخول في عبودية الله بصدق ويقين.
قصة ملكة سبأ في القرآن الكريم مثال بديع على التوازن بين الحكم والسياسة، والدعوة والإيمان، والعقل والنقل. واللطائف التي تتخلل هذه الآيات تدل على إعجاز بلاغي وتربوي، يُرسي قيم الحوار، ويحترم الفكر، ويُشجع على طلب الحق. كما تعلّم القارئ أن الهداية قد تأتي من موقف بسيط، أو رسالة صادقة، فتغير مجرى حياة كاملة، ولو كانت ملكةً على عرش عظيم.
روابط وكلمات مفتاحية
- كلمات مفتاحية | إعجاز ولطائف, الهدهد, سيدنا سليمان, لطائف قرآنية, ملكة سبأ